في وسع الأزمات إعادة تشكيل الرئاسة الأميركية، تماماً مثلما تفعل الهزات الأرضية بالأمكنة والمشاهد الطبيعية. وفي حالة أوباما، أظهرت استجابته للأزمات التي حدثت مؤخراً في تونس ومصر وليبيا والبحرين وغيرها قدرته على تجاوز الجانب المتحفظ من شخصيته، إلى تأكيد إحدى أكثر المفاهيم رسوخاً عن الدور المتوقع من الولايات المتحدة، والقائد الأعلى لجيشها في مثل هذه الظروف: قيادة العالم. وفي معظم الجزء المبكر من التاريخ الأميركي، اكتفى الرؤساء الأميركيون الأوائل بمجرد تقديم الدعم اللازم في مجال الشؤون الدولية. وحتى نهاية عهد الرئيس الأسبق روزفلت، لم يغادر أي من الرؤساء أميركا في زيارة لأي دولة من دول العالم. وكان ويلسون أو من كسر هذه القاعدة بزيارته إلى أوروبا. وكانت تلك الزيارة بمثابة مقدمة تولى بعدها روزفلت ذلك الدور القيادي العالمي الذي أصبح سمة مميزة لجميع الرؤساء الأميركيين منذ سنوات الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الحرب الباردة. ومنذ ذلك الوقت عرفت أميركا بأنها دولة قائدة للعالم الحر. وخلال العقدين الماضيين، اجترح الرؤساء الأميركيون نهجهم الخاص. فاعتماداً على النصر العسكري الذي حققته الولايات المتحدة في الحرب الباردة، مدعوماً بقوة النمو الاقتصادي، تمكن كلينتون من تقديم نفسه على أنه "رئيس العالم" بأسره، مستغلاً في ذلك بروز أميركا من فترة الحرب الباردة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة. وبذلك صعد نجم كلينتون الذي كان يسعى لإيجاد الأرضيات المشتركة مع بقية دول العالم بغية تحقيق الأهداف التي تبنتها إدارته مثل العولمة الاقتصادية وغيرها. وعقب هجمات 11 سبتمبر، نصّب الرئيس السابق جورج نفسه "مقرراً" للعالم وقائداً أوحد له. فهو الرئيس الذي سجل اسمه في تاريخ السياسات الأحادية بتبنيه لشعار: "إما معنا أو ضدنا". وفي ظل الإدارة الحالية يشهد العالم رئيساً لا يبدي حماساً لتقديم نفسه أو أمته باعتبارها أمة مهيمنة على الشؤون الدولية. فهو أكثر تواضعاً وأشد بعداً عن سياسة رفع العصا الغليظة، فضلاً عن ارتياحه للتعاون والعمل الجماعي المشترك مع الحلفاء. ويصل به هذا التواضع إلى حد سماحه للأمم الأخرى باتخاذ الموقع القيادي أحياناً، وهو الموقع الذي لم تكن واشنطن تتنازل عنه لأي أحد كان سابقاً. غير أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت خطابيته البليغة هذه تفيد، وتواضع سلوكه في حفز الأهداف والمصالح الأميركية، سواء تمثلت في نشر الديمقراطية، أم في احتواء الانتشار النووي. بل الواضح أن الرئيس -وبسبب تواضعه الشخصي، والظروف الداخلية المحيطة به- لا يبدي تلك الشكيمة القيادية التي قدّم بها الرؤساء الأميركيون السابقون أنفسهم على أنهم قادة للعالم. وفي المقابل يبدو أوباما كما لو كان قائداً للمراسم العالمية، ذلك أنه يكثر طقوس حسن الضيافة والمجاملة والمرافقة أكثر مما يبدي عضلات الدولة العظمى الضاربة التي يقودها. وعادة ما تصحب الصعوبات والأزمات الوظيفة الرئاسية بحد ذاتها، غير أنه لا ريب أن أوباما قد واجه ظروفاً وتحديات استثنائية. وعليه فإن أي تفكير سابق في أن يكون في وسع أوباما رسم وتحديد الأجندة العالمية، إما أن تكون قد اختطفته الأحداث والأزمات المتتالية التي واجهها الرئيس، أو أن تكون قد طغت على ذلك التفكير. فمن تداعيات الأزمة المالية الاقتصادية، إلى حالة الضيق التي مرت بها منطقة "اليورو"، ومن حربي العراق وأفغانستان، ومن سلسلة انتفاضات الربيع العربي إلى سفك الدماء المستمر في الحدود الأميركية-المكسيكية، وصولاً إلى تهديدات الخطر النووي في كل من إيران وكوريا الشمالية، تمطر كل هذه الأزمات على رأس أوباما يومياً في بيته الأبيض! وكان الأسبوع الماضي بمثابة ملخص للأزمات التي تواجهها إدارته. فبينما تعينت عليه الاستجابة للأزمة اليابانية، كان عليه أن يكون له صوت عالٍ في الحوار الدولي الدائر بشأن ممارسات العقيد معمر القذافي في ليبيا، وكذلك في خطط التدخل العسكري في البحرين. كما أنه كان مطالباً بأن يكون له موقف من القرار الذي اتخذته إسرائيل مؤخراً بتوسيع مستوطناتها، عقب اغتيال إحدى العائلات المستوطنة. ووسط ذلك كله، كان على أوباما الاستعداد لجولة رئاسية في أميركا اللاتينية، والاستمرار في خوض معركته مع الكونجرس فيما يتعلق بمصير ميزانيته. ليس ذلك فحسب، بل إن عليه الإلقاء بثقله الرئاسي في قبة الكونجرس دعماً لخطة الإصلاح التعليمي التي تبنتها إدارته. ولك أن تضيف إلى ذلك العبء الثقيل، ظهوره أمام أجهزة الإعلام لأربع مرات على الأقل. وقد شهد الأسبوع الماضي مبادرة عدد من أفراد الإدارة الجدد، من بينهم ويليام ديلي، قائد أركان الحرب الجديد، وتوم دونيلون، مستشار الأمن القومي الجديد، وسعيهم إلى تحسين أداء المجلس الوزاري للإدارة، وحفز تفاعله واستجابته للأحداث الدولية المتسارعة. وكما تابعنا وشاهدنا، فقد كان هناك حضور كثيف لعدد من الوزراء ولنائب الرئيس في مختلف أنحاء العالم الأسبوع الماضي. غير أن حمى هذا النشاط الدبلوماسي ليست دليلاً على أن أميركا تؤدي الدور القيادي العالمي التقليدي المنوط بها في وقت الأزمات. فحتى عندما طالب السيناتور جون كيري -رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ- بضرورة التحرك السريع لفرض منطقة حظر جوي على ليبيا، يلاحظ أن أوباما قد أحال اتخاذ القرار في هذا الأمر إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتأخر اتخاذ هذا القرار إلى أن صدر يوم الخميس الماضي. وبذلك توفرت مهلة كبيرة للقذافي، مكنته من تعزيز موقفه ضد معارضيه. ومهما يكن، فسوف يكشف فشل أو نجاح خطة الحظر الجوي هذه، ما إذا كان أسلوب سياسات أوباما الخارجية المتبع حالياً سوف يخدم مصالح واشن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ديفيد جي. روثكوبف باحث زائر بمؤسسة كارنيجي للسلام العالمي، ومؤلف كتاب "إدارة العالم" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"